Tuesday, March 20, 2012

"المشروع الثقافي لجمعية "جدل الثقافية


اجتمعت الهيئة التأسيسية وعملت بكثير من التضحيات والأحلام، والتف حولها بعض الأصدقاء والداعمين وشاركوها الحلم والانتظار حتى رأت الجمعية النور يوم 01 جويلية 2011. وربما ظلت إلى حد ذلك التاريخ حلما وضيئا يدغدغ أفئدة الكثيرين من أهالي مدينة مكثر ومن التونسيين البعيدين في الجغرافيا والقريبين في الفضاء الافتراضي لمتابعة عملية التأسيس خطوة بخطوة. والآن ولد المولود واستوى يتحسس أولى حركاته في النشاط الفعلي. وفي هذا الوقت ربما نحتاج إلى "تحميض" تلك الأحلام الغائمة حتى تتجلى ملامحها وتبين تفاصيلها. وفي هذا الوقت تراودني شخصيا، وبصفتي عضوا مؤسسا إلى جانب أصدقائي، أسئلة متعددة أجهد للإجابة عنها علـّها توضح لي علـّة وجودي في هذه الجمعية وتعطيني معنى لنشاطي داخلها، وأرجو كذلك أن تكون إجابتي إسهاما في إيضاح الطريق أمام هذا المولود الفتيّ حتّى يحبو ويخطو ويجري.
لماذا العمل الجمعياتي؟
لماذا المجال الثقافي؟
لماذا في مدينة مكثر؟
لماذا العمل الجمعياتي؟ أعتقد أنه باستطاعتي أن أقول وأنا مطمئن إن تونس اليوم تقبل على بناء مجتمع جديد، مجتمع مدني تحتل فعالياته دورها الحقيقي وتدفع الدولة(أو النظام القادم) إلى الانحسار حتى يأخذ حجمه الحقيقي أيضا دون تغوّل ودون تمدّد خرافي يملأ أرض تونس ويسد سماءها. تونس الجديدة إذن ستقوم على شراكة حقيقية بين النظام وفعاليات المجتمع المدني، شراكة في السلطة والقرار وفي المسؤولية أيضا من أجل إرساء سيادة الشعب كواقع على الأرض. وإذا كانت الأحزاب السياسية مشاريع أنظمة مستقبلية ربما تحمل في بنيتها استعدادات التغول إذا وصلت إلى السلطة يوما، فإن الجمعيات والمنظمات ووسائل الإعلام المستقلة وغيرها من فعاليات المجتمع المدني لا تحمل تلك الاستعدادات لأنها لا تطمح إلى السلطة، ومن ثم فهي المضاد أوالتلقيح الذي يعيق تلك الاستعدادات لدى"حزب الأغلبية المقبل" فيبقيها في حدود الإمكانات غير المتحققة. ومن هنا تصبح الجمعيات من أهم الضمانات التي تحمي مكاسب الثورة وتعمل على تحقيقها، لأنها تعمل على الارتقاء بالمواطن من طور التبعية للنظام إلى طور الاستقلالية والفاعلية. فليس النظام وحده مسؤول عن الشأن العام بما فيه من ثقافة وصحة وتعليم وتنمية وبيئة... وإنما المواطن أيضا مسؤول وشريك من خلال الأطر الجمعياتية التي يعمل داخلها، شريك في الشأن العام عبر التفكير والتخطيط والتنفيذ، وعبر الإنفاق أيضا(من خلال معاليم الانخراط والتبرعات التي يضخها في جمعيات تعمل في مجال الشأن العام). فيتحوّل العمل الجمعياتي من مجرد تطوّع إلى شراكة حقيقية وممارسة فعلية لسيادة الشعب التي هي سيادة مجموع المواطنين، والتي باستطاعتهم ممارستها لا من خلال صناديق الاقتراع فحسب، وإنما من خلال الشراكة في العمل والتمويل (ومن المعلوم أن الشراكة في التمويل خاصة تفضي دائما إلى شراكة في القرار). من المهم إذن أن يتيح العمل الجمعياتي للمواطن أن يخرج من السلبية والانفعال بنشاط النظام الحاكم إلى الفعل معه جنبا إلى جنب ما دام الشأن العام شأننا جميعا.
لماذا العمل الجمعياتي الثقافي؟ لا أقصد بإجابتي هذه التقليل من أهمية بقية المجالات وإنما سأتحدث عن العمل الثقافي باعتباره مجال نشاط الجمعية التي أنتمي إليها، وأنا أعي أنه لابدّ أن يوجد شركاء آخرون(وهم موجودون فعلا) يهتمون ببقية المجالات في إطار توزيع للأدوار يفضي بنا جميعا إلى التشارك في بناء مستقبل هذا الوطن.
من مطامح الثورة كما فهمتها بناء إنسان تونسي جديد، بوعي جديد ربما ورؤية جديدة للحياة والسياسة والفكر والوجود الإنساني بشكل عام. وهذا لأن الثورة تعني ببساطة التغيير الجذري، وليس تغييرالنظام الحاكم وقوانين اللعبة السياسية فقط. الثورة تغيير للمجتمع أيضا أو إعادة بنائه من جديد بشكل يخلصه من كل الأورام الخبيثة التي استمرت الدكتاتورية في زرعها فيه عبر عقود متوالية، فإذا استعاد عافيته وانعتق من سجون الوهن والتفكك والضياع والانسحاق إلى رحاب الفعل والتطوّر والرفاه تنامى إلى مستقبل الأيام بكل عنفوانه المشرئبّ. ولبناء هذا المجتمع لا بدّ من التفكير في مواصفات الإنسان الذي يبنيه.(ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن النظام المنتظر أيا كان لن يبني المجتمع بل سيتيح، إذا كان صالحا، للمجتمع أن يبني نفسه عندما يطلق طاقاته من ربقة الدكتاتورية وأمراضها). فالإنسان/ المواطن إذن هو القائم بفعل البناء، وإذا كان الإنسان التونسي قد أصيب بما أصيب من خبائث الدكتاتورية (ولا أريد الخوض فيها لأنها أصبحت بالنسبة إليّ ذكرى بائسة وبغيضة عليّ أن أطردها من عقلي وقلبي بمجرد أن تهجس لي) فمن المهم التساؤل عن دور الثقافة في مداواة هذا الإنسان أو الأخذ بيده نحو تحقيق إنسانيته التي سلبه المارد الصريع منها الكثير.
ما دور الثقافة في بناء الإنسان؟ سؤال في غاية العمق والتشعب، لكنني سأحاول في هذا السياق اختصاره في انتظاراتي البسيطة ربما، أنتظر من العمل الجمعياتي الثقافي:
- أن يسهم في العمل على مصالحة الإنسان مع ذوقه الجمالي وروح الخلق لديه.
- أن يسهم في جعله إنسانا مفكرا عقلانيا ومنطقيا.
- أن يسهم في تطوير وعيه بذاته وبقضاياه كفرد وكمجتمع حتى يحظى بشرف أن يكون مواطنا.
- أن يسهم في ترسيخ كل القيم التي ترتقي بالإنسان إلى إنسانيته وأن يبعده خطوات إضافية عن الغرائز والأهواء التي تشده أبدا إلى "شقه الحيواني".
أما عن علاقة الثقافة بالهوية فلن أخوض فيها لأن الحديث كثر حولها بعد الثورة، والحال أن الهوية معطى تاريخي لا أحد يقدر أن ينقص منها شيئا مما صنعه التاريخ ولا أحد أيضا يقدر أن يضيف لها شيئا ليس فيها. بل وحدها كيمياء التاريخ تصنع الهوية، وكل الأطراف أيّا كانت ليست أكثر من ذرّات ضئيلة في تلك الكيمياء التي لا أملك أسرار معادلاتها.
لماذا في مدينة مكثر؟
كانت هذه المدينة أوّل مكان رأيناه عندما انجلى الظلام ونظرنا حولنا وفكرنا في تأسيس الجمعية، لأننا نسكنها والسكن يؤلّف. لكن عندما طرحنا الأسئلة بدا لنا حجم الظلم الذي سلط عليها:
في هذه المدينة نهب عمق التاريخ وشذى الحضارة.
في هذه المدينة اضمحل وهج الحياة حتى انحسر إلى الحد الأدنى من العيش دون تنمية ولا ثقافة ولابنية تحتية ولا حقوق إنسانية واجتماعية.
في هذه المدينة نعيش كلنا بين طرفي مفارقة غريبة، أحدهما تصحّر الحاضر وتصاغر المدينة على جميع الأصعدة، والثاني ذكريات الثمانينات أيام سينما بوعزيز والمكتبة العمومية القديمة حيث كان يجب التبكير للحصول على مقعد شاغر بين رفوف الكتب وعجيج المطر المدهش فوق القرميد، قبل أن يحلّ الربيع وتتحوّل الحديقة الواسعة للمكتبة إلى مسرح رحب للندوات والمحاضرات والأنشطة الثقافية المختلفة، وأيام دار الثقافة ونوادي التنس والفروسية والموسيقى والأدب والرسم الزيتي والسينما... والنوادي التلمذية ومسابقات "بين المعاهد" التي كانت فرحتنا... ونعيش مفارقة أخرى طرفاها جيلنا أتيح له أن ينهل من كلّ ذاك الزخم، وجيل أبنائنا الذي "كتب"عليه أن ينشأ وسط كلّ هذا الفراغ.
من هاتين المفارقتين الموجعتين انبثقت فكرة تأسيس جمعية "جدل الثقافية" علـّها تسهم في إعادة الاعتبار إلى هذه المدينة وإلى أهلها باعتبارهم بشرا أيضا لهم نفس الحقوق والواجبات والطاقات والكفاءات التي لغيرهم من البشر، وإلى شبابها وأطفالها حتى يتربّوا وسط قدر معقول من الفعل الثقافي.
من هذه المدينة أيضا ستنطلق الجمعية لتتوسّع وتشع وتؤسس فروعا لها في كل مدينة تونسية، لأن قصة مدينة مكثر هي قصة كلّ مدن الداخل، أمّا مدن السواحل فمكثر قصتها أيضا وإن بشكل مختلف.

عبدالله بنيونس 

0 comments:

Post a Comment